الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **
قال الإمام أبو عبد الرحمن النسائي في كتاب التفسير: من (سننه) عند قوله تعالى في سورة طه: حديث الفتون: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا أصبغ بن زيد، حدثنا القاسم بن أبي أيوب، أخبرني سعيد بن جبير قال: سألت عبد الله بن عباس عن قول الله تعالى لموسى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} فسألته عن الفتون ما هو؟ فقال: استأنف النهار يا ابن جبير، فإن لها حديثاً طويلاً، فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون، فقال: تذكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم عليه السلام أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً، فقال بعضهم: إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك ما يشكون فيه، وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب. فلما هلك قالوا: ليس هكذا كان وعد إبراهيم. فقال فرعون: فكيف ترون؟ فأتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولوداً ذكراً إلا ذبحوه، ففعلوا ذلك. (ج/ص: 1/ 350) فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، والصغار يذبحون، قالوا: توشكون أن تفنوا بني إسرائيل، فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة الذي كانوا يكفونكم، فاقتلوا عاماً كل مولود ذكر و اتركوا بناتهم، ودعوا عاماً فلا تقتلوا منهم أحداً، فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار، فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم، فتخافوا مكاثرتهم إياكم، ولن تفتنوا بمن تقتلون وتحتاجون إليهم. فأجمعوا أمرهم على ذلك، فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان، فولدته علانية آمنة، فلما كان من قابل، حملت بموسى عليه السلام فوقع في قلبها الهم والحزن، وذلك من الفتون - يا ابن جبير - ما دخل عليه في بطن أمه مما يراد به. فأوحى الله إليها أن لا تخافي ولا تحزني، إنا رادوه إليك، وجاعلوه من المرسلين، فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت، وتلقيه في اليم، فلما ولدت فعلت ذلك، فلما توارى عنها ابنها، أتاها الشيطان فقالت في نفسها: ما فعلت بابني لو ذبح عندي، فواريته وكفنته، كان أحب إلي من أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه. فانتهى الماء به حتى أوفى عند فرضة مستقى جواري امرأة فرعون، فلما رأينه أخذنه، فهممن أن يفتحن التابوت، فقال بعضهن: إن في هذا مالاً وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه، فحملته كهيئته لم يخرجن منه شيئاً، حتى دفعنه إليها، فلما فتحته رأت فيه غلاماً، فألقى عليه منها محبة، لم تلق منها على أحد قط. فأتت فرعون فقالت: ((والذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له، كما أقرت امرأته، لهداه الله كما هداها، ولكن حرمه ذلك)). فأرسلت إلى من حولها إلى كل امرأة لها، لأن تختار له ظئراً فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه، لم يقبل على ثديها، حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت، فأحزنها ذلك، فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس، ترجو أن تجد له ظئراً تأخذه منها فلم يقبل. (ج/ص: 1/ 351) وأصبحت أم موسى والهاً، فقالت لأخته: قصي أثره واطلبيه، هل تسمعين له ذكراً؟ أحي ابني أم قد أكلته الدواب؟ ونسيت ما كان الله وعدها فيه. {فَبَصُرَتْ بِهِ} أخته فقالت: نصحهم له، وشفقتهم عليه، ورغبتهم في صهر الملك، ورجاء منفعة الملك، فأرسلوها، فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر، فجاءت أمه، فلما وضعته في حجرها، نزا إلى ثديها فمصه، حتى امتلأ جنباه رياً. وانطلق البشير إلى امرأة فرعون يبشرها أن قد وجدنا لابنك ظئراً، فأرسلت إليها فأتت بها وبه، فلما رأت ما يصنع بها قالت: امكثي ترضعي ابني هذا، فإني لم أحب شيئاً حبه قط. قالت أم موسى: لا أستطيع أن أترك بيتي وولدي فيضيع، فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيراً، فعلت فإني غير تاركة بيتي وولدي، وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها فتعاسرت، على امرأة فرعون، وأيقنت أن الله منجز موعوده، فرجعت إلى بيتها من يومها، وأنبته الله نباتاً حسناً وحفظه لما قد قضى فيه. فلم يزل بنو إسرائيل وهم في ناحية القرية ممتنعين من السخرة والظلم، ما كان فيهم، فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى: أزيريني ابني، فوعدتها يوماً تزيرها إياه فيه. وقالت امرأة فرعون لخازنها وظئورها وقهارمتها: لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني اليوم بهدية وكرامة لأرى ذلك فيه، وأنا باعثة أميناً يحصي كل ما يصنع كل إنسان منكم، فلم تزل الهدايا، والكرامة، والنحل تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون. فلما دخل عليها نحلته وأكرمته وفرحت به، ونحلت أمه بحسن أثرها عليه. ثم قالت: لآتين به فرعون فلينحلنه وليكرمنه، فلما دخلت به عليه، جعله في حجره، فتناول موسى لحية فرعون، فمدها إلى الأرض. فقال الغواة من أعداء الله لفرعون: ألا ترى ما وعد الله إبراهيم نبيه، أنه زعم أنه يرثك ويعلوك ويصرعك، فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه، وذلك من الفتون -يا ابن جبير - بعد كل بلاء ابتلى به، وأريد به. فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون. فقالت: ما بدا لك في هذا الغلام الذي وهبته لي؟ فقال: ألا ترينه يزعم أنه يصرعني ويعلوني. فقالت: اجعل بيني وبينك أمراً تعرف فيه الحق، ائت بجمرتين ولؤلؤتين، فقربهن إليه، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين، عرفت أنه يعقل، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين، علمت أن أحداً لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل. (ج/ص: 1/ 352) فقرب إليه فتناول الجمرتين، فانتزعهما منه مخافة أن يحرقا يده، فقالت المرأة: ألا ترى، فصرفه الله عنه بعد ما كان هم به، وكان الله بالغاً فيه أمره، فلما بلغ أشده وكان من الرجال لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة، حتى امتنعوا كل الامتناع. فبينما موسى عليه السلام يمشي في ناحية المدينة، إذا هو برجلين يقتتلان، أحدهما فرعوني، والآخر إسرائيلي، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فغضب موسى غضباً شديداً لأنه تناوله، وهو يعلم منزلته من بني إسرائيل، وحفظه لهم لا يعلم الناس إلا أنه من الرضاعة إلا أم موسى، إلا أن يكون الله أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره. فوكز موسى الفرعوني فقتله، وليس يراهما أحد إلا الله عز وجل والإسرائيلي، فقال موسى حين قتل الرجل: ثم قال: فبينما هم يطوفون لا يجدون بينة، إذا موسى من الغد قد رأى ذلك الإسرائيلي يقاتل رجلاً من آل فرعون آخر، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فصادف موسى قد ندم على ما كان منه، وكره الذي رأى، فغضب الإسرائيلي وهو يريد أن يبطش بالفرعوني، فقال للإسرائيلي: لما فعل بالأمس واليوم: فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعد ما قال له ما قال، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس، الذي قتل فيه الفرعوني، فخاف أن يكون بعد ما قال له إنك لغوي مبين، أن يكون إياه أراد، ولم يكن أراده، إنما أراد الفرعوني، فخاف الإسرائيلي وقال: {قَالَ يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ}. وإنما قال له مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله، فتتاركا وانطلق الفرعوني فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر حين يقول: فأرسل فرعون الذباحين ليقتلوا موسى، فأخذ رسل فرعون الطريق الأعظم، يمشون على هينتهم يطلبون موسى، وهم لا يخافون أن يفوتهم، فجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة، فاختصر طريقاً حتى سبقهم إلى موسى فأخبره، وذلك من الفتون - يا ابن جبير -. فخرج موسى متوجهاً نحو مدين لم يلق بلاء قبل ذلك، وليس له بالطريق علم إلا حسن ظنه بربه عز وجل، فإنه قال: فقال لهما: {ما خطبكما} معتزلتين لا تسقيان مع الناس؟ قالتا: ليس لنا قوة تزاحم القوم، وإنما ننتظر فضول حياضهم، فسقى لهما فجعل يغرف من الدلو ماء كثيراً، حتى كان أول الرعاء، وانصرفتا بغنمهما إلى أبيهما، وانصرف موسى فاستظل بشجرة وقال: واستنكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حفلاً بطاناً، فقال إن لكما اليوم لشأنا فأخبرتاه بما صنع موسى، فأمر إحداهما أن تدعوه، فأتت موسى فدعته، فلما كلمه {يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} فاحتملته الغيرة على أن قال لها: ما يدريك ما قوته، وما أمانته؟ فقالت: أما قوته: فما رأيت منه في الدلو، حين سقى لنا، لم أر رجلاً قط أقوى في ذلك السقي منه، وأما الأمانة: فإنه نظر إلي حين أقبلت إليه وشخصت له. فلما علم أني امرأة صوب رأسه فلم يرفعه، حتى بلغته رسالتك، ثم قال لي: امشي خلفي وانعتي لي الطريق فلم يفعل هذا إلا وهو أمين، فسرى عن أبيها وصدقها، وظن به الذي قالت. فقال له: هل لك قال سعيد هو - ابن جبير -: فلقيني رجل من أهل النصرانية من علمائهم قال: هل تدري أي الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا، وأنا يومئذ لا أدري، فلقيت ابن عباس فذكرت ذلك له، فقال: أما علمت أن ثمانية كانت على نبي الله واجبة، لم يكن نبي الله لينقص منها شيئاً؟ وتعلم أن الله كان قاضياً عن موسى عدته التي وعده، فإنه قضى عشر سنين. فلقيت النصراني فأخبرته ذلك، فقال: الذي سألته فأخبرك، أعلم منك بذلك، قلت: أجل وأولى. فلما سار موسى بأهله كان من أمر النار والعصي ويده ما قص الله عليك في القرآن، فشكا إلى الله تعالى ما يتخوف من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون، يكون له ردءاً، ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، فأتاه الله عز وجل سؤله، وحل عقدة من لسانه. وأوحى الله إلى هارون فأمره أن يلقاه، فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون، فانطلقا جميعاً إلى فرعون، فأقاما على بابه حيناً لا يؤذن لهما، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد، فقالا: فقال: فمن ربكما؟ فأخبره بالذي قص الله عليك في القرآن. قال: فما تريدان؟. وذكره القتيل فاعتذر بما قد سمعت. قال: أريد أن تؤمن بالله وترسل معي بني إسرائيل، فأبى عليه وقال: فلما رآها فرعون قاصدة إليه، خافها، فاقتحم عن سريره، واستغاث بموسى، أن يكفها عنه ففعل، ثم أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء، يعني: من غير برص، ثم ردها فعادت إلى لونها الأول، فاستشار الملأ حوله فيما رأى، فقالوا له: وأبوا على موسى أن يعطوه شيئاً مما طلب، وقالوا له: اجمع السحرة فإنهم بأرضك كثير، حتى تغلب بسحرك سحرهما، فأرسل إلى المدائن، فحشر له كل ساحر متعالم، فلما أتوا فرعون قالوا: بم يعمل هذا الساحر؟ قالوا: يعمل بالحيات، قالوا: فلا والله ما أحد في الأرض يعمل بالسحر بالحيات، والحبال والعصي الذي نعمل، وما أجرنا إن نحن غلبنا؟ قال لهم: أنتم أقاربي وخاصتي، وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم. فتواعدوا فقالوا: يا موسى بعد تريثهم بسحرهم قال: بل ألقوا فلما عرف السحرة ذلك، قالوا: لو كان هذا سحراً لم تبلغ من سحرنا كل هذا، ولكنه أمر من الله تعالى، آمنا بالله وبما جاء به موسى، ونتوب إلى الله مما كنا عليه، فكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأشياعه، وظهر الحق، وبطل ما كانوا يعملون، فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين. وامرأة فرعون بارزة مبتذلة، تدعو لله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه، فمن رآها من آل فرعون ظن أنها إنما ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه، وإنما كان حزنها وهمها لموسى، فلما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة، كلما جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا مضت أخلف من غده. (ج/ص: 1/ 355) وقال: هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا؟ فأرسل الله على قومه الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم آيات مفصلات، كل ذلك يشكو إلى موسى ويطلب إليه أن يكفها عنه، ويوافقه على أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا كف ذلك عنه أخلف بوعده، ونكث عهده، حتى أمر موسى بالخروج بقومه، فخرج بهم ليلاً، فلما أصبح فرعون ورأى أنهم قد مضوا، أرسل في المدائن حاشرين، فتبعه بجنود عظيمة كثيرة، وأوحى الله إلى البحر إذا ضربك موسى عبدي بعصاه فانفلق اثنتي عشرة فرقة، حتى يجوز موسى ومن معه. ثم التقي على من بقي بعد من فرعون وأشياعه، فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصي، وانتهى إلى البحر وله قصيف، مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل، فيصير عاصياً لله عز وجل. فلما تراءى الجمعان وتقاربا قال أصحاب موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} افعل ما أمرك به ربك، فإنه لم يكذب ولم تكذب. قال: وعدني ربي إذا أتيت البحر انفرق اثنتي عشرة فرقة حتى أجاوزه، ثم ذكر بعد ذلك العصا، فضرب البحر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى، فانفرق البحر كما أمره ربه، وكما وعد موسى. فلما أن جاوز موسى وأصحابه كلهم البحر، ودخل فرعون وأصحابه التقى عليهم البحر كما أمر، فلما جاوز موسى البحر قال أصحابه: إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق، ولا نؤمن بهلاكه، فدعا ربه فأخرجه له ببدنه حتى استيقنوا بهلاكه. ثم مروا بعد ذلك على قوم يعكفون على أصنام لهم {قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الأعراف: 138] قد رأيتم من العبر وسمعتم ما يكفيكم، ومضى فأنزلهم موسى منزلاً وقال: أطيعوا هارون فإن الله قد استخلفه عليكم، فإني ذاهب إلى ربي، وأجلهم ثلاثين يوماً أن يرجع إليهم فيها. فلما أتى ربه عز وجل، وأراد أن يكلمه في ثلاثين يوماً، وقد صامهن ليلهن ونهارهن، وكره أن يكلم ربه وريح فيه ريح فم الصائم، فتناول موسى شيئاً من نبات الأرض فمضغه، فقال له ربه حين أتاه: لمَ أفطرت؟ - وهو أعلم بالذي كان -. قال: يا رب إني كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح. قال: أوما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك؟ ارجع فصم عشراً ثم ائتني. ففعل موسى ما أمره به ربه. فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم في الأجل، ساءهم ذلك، وكان هارون قد خطبهم فقال: إنكم خرجتم من مصر ولقوم فرعون عندكم عوارى وودائع، ولكم فيها مثل ذلك، وأنا أرى أن تحتسبوا مالكم عندهم، ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية، ولسنا برادين إليهم شيئاً من ذلك، ولا ممسكيه لأنفسنا، فحفر حفيراً، وأمر كل قوم عندهم من ذلك متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير. (ج/ص: 1/ 356) ثم أوقد عليه النار فأحرقه فقال: لا يكون لنا ولا لهم. وكان السامري من قوم يعبدون البقر، جيران لبني إسرائيل، ولم يكن من بني إسرائيل، فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا، فقضى له أن رأى أثراً فقبض منه قبضة، فمر بهارون. فقال له هارون: يا سامري ألا تلقي ما في يديك؟ وهو قابض عليه لا يراه أحد طوال ذلك. فقال: هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر، ولا ألقيها لشيء إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يكون ما أريد، فألقاها ودعا له هارون. فقال: أريد أن تكون عجلاً فاجتمع ما كان في الحفرة من متاع أو حلية، أو نحاس، أو حديد، فصار عجلاً أجوف ليس فيه روح له خوار. قال ابن عباس: لا والله ما كان فيه صوت قط، إنما كانت الريح تدخل من دبره، وتخرج من فيه، فكان ذلك الصوت من ذلك. فتفرق بنو إسرائيل فرقاً. فقالت فرقة: يا سامري ما هذا وأنت أعلم به؟ قال: هذا ربكم، ولكن موسى أضل الطريق. وقالت فرقة: لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى، فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حتى رأيناه، وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول موسى. وقالت فرقة: هذا من عمل الشيطان، وليس بربنا، ولا نؤمن به ولا نصدق. واشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل، وأعلنوا التكذيب به. فقال لهم هارون عليه السلام: {يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ} [طه: 90] ليس هذا. قالوا: فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوماً ثم أخلفنا، هذه أربعون يوماً قد مضت، قال سفهاؤهم: أخطأ ربه فهو يطلبه ويبتغيه، فلما كلم الله موسى وقال له ما قال، أخبره بما لقي قومه من بعده قال: قبضت قبضة من أثر الرسول، وفطنت لها، وعميت عليكم، فقذفتها فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة، واغتبط الذين كان رأيهم فيه مثل رأي هارون، فقالوا لجماعتهم: يا موسى سل لنا ربك أن يفتح لنا باب توبة نصنعها، فتكفر عنا ما عملنا، فاختار موسى من قومه سبعين رجلاً لذلك، لا يألوا الخير خيار بني إسرائيل، ومن لم يشرك في الحق، فانطلق بهم يسأل لهم التوبة، فرجفت بهم الأرض. (ج/ص: 1/ 357) فاستحيا نبي الله عليه السلام من قومه، ومن وفده حين فعل بهم ما فعل فقال: فقال: يا رب سألتك التوبة لقومي فقلت: إن رحمتي كتبتها لقوم غير قومي، فليتك أخرتني حتى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحوم، فقال له: إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم من لقي من والد وولد، فيقتله بالسيف، ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن، وتاب أولئك الذين كان خفي على موسى وهارون أمرهم، وأطلع الله من ذنوبهم فاعترفوا بها، وفعلوا ما أمروا، وغفر الله للقاتل والمقتول. ثم سار بهم موسى عليه السلام متوجهاً نحو الأرض المقدسة، وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب، فأمرهم بالذي أمر به من الوظائف، فثقل ذلك عليهم، وأبوا أن يقروا بها، ونتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة، ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم، وأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون، ينظرون إلى الجبل، والكتاب بأيديهم وهم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم. ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة، فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون، خلقهم خلق منكر، وذكر من ثمارهم أمراً عجباً من عظمها فقالوا: قيل ليزيد: هكذا قراه؟ قال: نعم، من الجبارين، آمنا بموسى وخرجنا إليه. فقالوا: نحن أعلم بقومنا إن كنتم إنما تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم، فإنهم لا قلوب لهم ولا منعة عندهم، فادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون. ويقول أناس: إنهم من قوم موسى، فقال الذين يخافون من بني إسرائيل: {قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} فأغضبوا موسى، فدعا عليهم وسماهم فاسقين، ولم يدع عليهم قبل ذلك، لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم حتى كان يومئذ، فاستجاب الله لهم، وسماهم كما سماهم موسى فاسقين، فحرمها عليهم أربعين سنة، يتيهون في الأرض، يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار. ثم ظلل عليهم الغمام في التيه، وأنزل عليهم المن والسلوى، وجعل لهم ثياباً لا تبلى ولا تتسخ، وجعل بين ظهرانيهم حجرا مربعاً، وأمر موسى فضربه بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، في كل ناحية ثلاثة أعين، وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها، فلا يرتحلون من محله إلا وجدوا ذلك الحجر بينهم بالمكان الذي كان فيه بالمنزل الأول بالأمس. (ج/ص: 1/ 358) رفع ابن عباس هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وصدق ذلك عندي أن معاوية سمع ابن عباس يحدث هذا الحديث، فأنكر عليه أن يكون الفرعوني الذي أفشى على موسى أمر القتيل الذي قتل، فقال: كيف يفشي عليه ولم يكن علم به ولا ظهر عليه إلا الإسرائيلي الذي حضر ذلك؟ فغضب ابن عباس، فأخذ بيد معاوية فانطلق به إلى سعد بن مالك الزهري فقال له: يا أبا إسحاق هل تذكر يوم حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتيل موسى، الذي قتل من آل فرعون؟ الإسرائيلي الذي أفشى عليه أم الفرعوني؟ قال: إنما أفشى عليه الفرعوني بما سمع من الإسرائيلي، الذي شهد ذلك وحضره. هكذا ساق هذا الحديث الإمام النسائي، وأخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، في (تفسيرهما) من حديث يزيد بن هارون، والأشبه والله أعلم أنه موقوف، وكونه مرفوعاً فيه نظر، وغالبه متلقى من الإسرائيليات وفيه شيء يسير مصرح برفعه في أثناء الكلام، وفي بعض ما فيه نظر ونكارة، والأغلب أنه من كلام كعب الأحبار. وقد سمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضاً، والله أعلم. قال أهل الكتاب: وقد أمر الله موسى عليه السلام بعمل قبة من خشب الشمشاز، وجلود الأنعام، وشعر الأغنام، وأمر بزينتها بالحرير المصبغ، والذهب والفضة، على كيفيات مفصلة عند أهل الكتاب، ولها عشر سرادقات، طول كل واحد ثمانية وعشرون ذراعاً، وعرضه أربعة أذرع، ولها أربعة أبواب، وأطناب من حرير ودمقس مصبغ، وفيها رفوف وصفائح من ذهب وفضة، ولكل زاوية بابان وأبواب أخر كبيرة، وستور من حرير مصبغ، وغير ذلك مما يطول ذكره. وبعمل تابوت من خشب الشمشاز، يكون طوله ذراعين ونصفا، وعرضه ذراعين، وارتفاعه ذراعاً ونصفاً، ويكون مضبباً بذهب خالص من داخله وخارجه، وله أربع حلق في أربع زواياه، ويكون على حافتيه كروبيان من ذهب، يعنون صفة ملكين بأجنحة، وهما متقابلان، صنعه رجل اسمه: بصليال. وأمراه أن يعمل مائدة من خشب الشمشاز، طولها ذراعان، وعرضها ذراعان ونصف، لها ضباب ذهب، وإكليل ذهب بشفة مرتفعة بإكليل من ذهب، وأربع حلق من نواحيها من ذهب، مغرزة في مثل الرمان، من خشب ملبس ذهباً، وأن يعمل صحافاً ومصافي وقصاعا على المائدة. وأن يصنع منارة من الذهب، دلى فيها ست قصبات من ذهب، من كل جانب ثلاثة، على كل قصبة ثلاث سرج، وليكن في المنارة أربع قناديل، ولتكن هي وجميع هذه الآنية من قنطار من ذهب، صنع ذلك بصليال أيضاً، وهو الذي عمل المذبح أيضاً، ونصب هذه القبة أول يوم من سنتهم، وهو أول يوم من الربيع. (ج/ص: 1/ 359) ونصب تابوت الشهادة، وهو - والله أعلم - المذكور في قوله تعالى: وقد بسط هذا الفصل في كتابهم مطولاً جداً، وفيه شرائع لهم وأحكام وصفة قربانهم، وكيفيته، وفيه: أن قبة الزمان كانت موجودة قبل عبادتهم العجل الذي هو متقدم على مجيء بيت المقدس، وأنها كانت لهم كالكعبة يصلون فيها وإليها، ويتقربون عندها، وأن موسى عليه السلام كان إذا دخلها يقفون عندها، وينزل عمود الغمام على بابها، فيخرون عند ذلك سجداً لله عز وجل. ويكلم الله موسى عليه السلام من ذلك العمود الغمام، الذي هو نور، ويخاطبه ويناجيه، ويأمره وينهاه، وهو واقف عند التابوت، صامد إلى ما بين الكروبين، فإذا فصل الخطاب يخبر بني إسرائيل بما أوحاه الله عز وجل إليه من الأوامر والنواهي، وإذا تحاكموا إليه في شيء ليس عنده من الله فيه شيء، يجيء إلى قبة الزمان، ويقف عند التابوت، ويصمد لما بين ذينك الكروبين، فيأتيه الخطاب بما فيه فصل تلك الحكومة. وقد كان هذا مشروعاً لهم في زمانهم، أعني استعمال الذهب والحرير المصبغ، واللآلئ في معبدهم وعند مصلاهم، فأما في شريعتنا فلا، بل قد نهينا عن زخرفة المساجد وتزيينها، لئلا تشغل المصلين كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما وسع في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي وكله على عمارته: ابن للناس ما يكنهم، وإياك أن تحمر أو تصفر، فتفتن الناس. وقال ابن عباس: لنزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى كنائسهم، وهذا من باب التشريف والتكريم والتنزيه، فهذه الأمة غير مشابهة من كان قبلهم من الأمم، إذ جمع الله همهم في صلاتهم على التوجه إليه والإقبال عليه، وصان أبصارهم وخواطرهم عن الاشتغال والتفكر في غير ما هم بصدده، من العبادة العظيمة، فلله الحمد والمنة. وقد كانت قبة الزمان هذه مع بني إسرائيل في التيه، يصلون إليها وهي قبلتهم وكعبتهم، وإمامهم كليم الله موسى عليه السلام، ومقدم القربان أخوه هارون عليه السلام، فلما مات هارون، ثم موسى عليهما السلام، استمرت بنو هارون في الذي كان يليه أبوهم من أمر القربان، وهو فيهم إلى الآن. وقام بأعباء النبوة بعد موسى، وتدبير الأمر بعده: فتاه يوشع بن نون عليه السلام، وهو الذي دخل بهم بيت المقدس، كما سيأتي بيانه، والمقصود هنا أنه لما استقرت يده على البيت المقدس، نصب هذه القبة على صخرة بيت المقدس، فكانوا يصلون إليها، فلما بادت صلوا إلى محلتها، وهي الصخرة، فلهذا كانت قبلة الأنبياء بعده إلى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ج/ص: 1/ 360) وقد صلى إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، وكان يجعل الكعبة بين يديه، فلما هاجر أمر بالصلاة إلى بيت المقدس، فصلى إليها ستة عشر - وقيل: سبعة عشر شهراً - ثم حولت القبلة إلى الكعبة وهي قبلة إبراهيم، في شعبان سنة ثنتين في وقت صلاة العصر، وقيل: الظهر، كما بسطنا ذلك في التفسير عند قوله تعالى: قال الأعمش، عن المنهال بن عمرو بن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان قارون ابن عم موسى، وكذا قال: إبراهيم النخعي، وعبد الله بن الحرث بن نوفل، وسماك بن حرب، وقتادة، ومالك بن دينار، وابن جريج، وزاد فقال: هو قارون بن يصهر بن قاهث، وموسى بن عمران بن قاهث. قال ابن جريج: وهذا قول أكثر أهل العلم، أنه كان ابن عم موسى، ورد قول ابن إسحاق إنه كان عم موسى. قال قتادة: وكان يسمى المنور، لحسن صوته بالتوراة. ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري، فأهلكه البغي لكثرة ماله. وقال شهر بن حوشب: زاد في ثيابه شبراً طولاً ترفعاً على قومه، وقد ذكر الله تعالى كثرة كنوزه، حتى أن مفاتيحه كان يثقل حملها على الفئام من الرجال الشداد. (ج/ص: 1/ 361) وقد قيل: إنها كانت من الجلود، وإنها كانت تحمل على ستين بغلا، فالله أعلم. وقد وعظه النصحاء من قومه قائلين: لا تفرح أي: لا تبطر بما أعطيت وتفخر على غيرك إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} يقولون: لتكن همتك مصروفة لتحصيل ثواب الله في الدار الآخرة، فإنه خير وأبقى، ومع هذا قال الله تعالى رداً عليه ما ذهب إليه: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} أي: قد أهلكنا من الأمم الماضين بذنوبهم وخطاياهم، من هو أشد من قارون قوة وأكثر أموالا وأولادا، فلو كان ما قال صحيحاً لم نعاقب أحداً ممن كان أكثر مالاً منه، ولم يكن ماله دليلاً على محبتنا له واعتنائنا به. كما قال تعالى: وقال تعالى: وأما من زعم أن المراد من ذلك أنه كان يعرف صنعة الكيمياء، أو أنه كان يحفظ الاسم الأعظم، فاستعمله في جمع الأموال، فليس بصحيح، لأن الكيمياء تخييل وصبغة، لا تحيل الحقائق، ولا تشابه صنعة الخالق، والاسم الأعظم لا يصعد الدعاء به من كافر به، وقارون كان كافراً في الباطن، منافقاً في الظاهر، ثم لا يصح جوابه لهم بهذا على هذا التقدير، ولا يبقى بين الكلامين تلازم، وقد وضحنا هذا في كتابنا (التفسير)، ولله الحمد. قال الله تعالى: قال الله تعالى: قال الله تعالى: كما روى البخاري، من حديث الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بينا رجل يجر إزاره إذ خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)). ثم رواه البخاري من حديث جرير بن زيد، عن سالم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وقد ذكر ابن عباس والسدي: أن قارون أعطى امرأة بغياً مالاً على أن تقول لموسى عليه السلام وهو في ملأ من الناس إنك فعلت بي كذا وكذا. فيقال: إنها قالت له ذلك، فارعد من الفرق، وصلى ركعتين، ثم أقبل عليها فاستحلفها من ذلك على ذلك وما حملك عليه، فذكرت أن قارون هو الذي حملها على ذلك، واستغفرت الله وتابت إليه، فعند ذلك خر موسى لله ساجداً، ودعا الله على قارون، فأوحى الله إليه أني قد أمرت الأرض أن تطيعك فيه، فأمر موسى الأرض أن تبتلعه وداره، فكان ذلك، فالله أعلم. وقد قيل: إن قارون لما خرج على قومه في زينته، مر بجحفله، وبغاله، وملابسه على مجلس موسى عليه السلام، وهو يذكر قومه بأيام الله. فلما رآه الناس، انصرفت وجوه كثير من الناس ينظرون إليه، فدعا موسى عليه السلام، فقال له: ما حملك على هذا؟ فقال: يا موسى أما لئن كنت فضِّلت عليَّ بالنبوة، فلقد فضلت عليك بالمال، ولئن شئت لتخرجن فلتدعون علي، ولأدعون عليك. فخرج، وخرج قارون في قومه، فقال له موسى: تدعو أو أدعو؟ قال: أدعو أنا، فدعا قارون فلم يجب في موسى. فقال موسى: أدعو؟ قال: نعم. فقال موسى: اللهم مر الأرض فلتطغى اليوم، فأوحى الله إليه إني قد فعلت، فقال موسى: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى أقدامهم، ثم قال: خذيهم، فأخذتهم إلى ركبهم، ثم إلى مناكبهم، ثم قال: أقبلي بكنوزهم وأموالهم، فأقبلت بها حتى نظروا إليها، ثم أشار موسى بيده فقال: اذهبوا بني لاوى فاستوت بهم الأرض. وقد روي عن قتادة أنه قال: يخسف بهم كل يوم قامة إلى يوم القيامة. وعن ابن عباس أنه قال: خسف بهم إلى الأرض السابعة، وقد ذكر كثير من المفسرين ههنا إسرائيليات كثيرة أضربنا عنها صفحاً، وتركناها قصداً. (ج/ص: 1/ 363) وقوله تعالى: ولما حل به ما حل من الخسف، وذهاب الأموال، وخراب الدار، وإهلاك النفس والأهل والعقار، ندم من كان تمنى مثل ما أوتي، وشكروا الله تعالى الذي يدبر عباده بما يشاء من حسن التدبير المخزون، ولهذا قالوا: ثم أخبر تعالى أن الدار الآخرة - وهي دار القرار - وهي الدار التي يغبط من أعطيها، ويعزى من حرمها، إنما هي سعدة للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، فالعلو هو: التكبر، والفخر، والأشر، والبطر، والفساد: هو عمل المعاصي اللازمة، والمتعدية من أخذ أموال الناس، وإفساد معايشهم، والاساءة إليهم، وعدم النصح لهم. ثم قال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} وقصة قارون هذه، قد تكون قبل خروجهم من مصر، لقوله: يا دارا عبلة بالجواء تكلمي * وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي والله أعلم. وقد ذكر الله تعالى مذمة قارون في غير ما آية من القرآن قال الله: وقال تعالى في سورة العنكبوت، بعد ذكر عاد وثمود وقارون وفرعون وهامان: فالذي خسف به الأرض قارون كما تقدم، والذي أغرق: فرعون وهامان وجنودهما أنهم كانوا خاطئين. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا سعيد، حدثنا كعب بن علقمة، عن عيسى بن هلال الصدفي، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوماً فقال: ((من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون، وفرعون، وهامان، وأُبي بن خلف)). انفرد به أحمد رحمه الله. (ج/ص: 1/ 364) قال الله تعالى: وقال تعالى: {قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي ...} [الأعراف: 144]. وتقدم في ((الصحيحين): عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تفضلوني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش، فلا أدري أصعق فأفاق قبلي، أم جوزي بصعقة الطور؟)). وقدمنا أنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب الهضم والتواضع، وإلا فهو صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء، وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، قطعاً جزماً لا يحتمل النقيض. وقال تعالى: وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب: 69]. قال الإمام أبو عبد الله البخاري: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن روح بن عبادة، عن عوف، عن الحسن ومحمد وخلاس، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً لا يرى جلده شيء استحياء منه، فأذاه من أذاه من بني إسرائيل. فقالوا: ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده، إما برص أو أدرة، وإما آفة، وأن الله عز وجل أراد أن يبرأه مما قالوا لموسى، فخلا يوماً وحده، فوضع ثيابه على الحجر، ثم اغتسل فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه. فأخذ موسى عصاه، وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عرياناً أحسن ما خلق الله، وبرأه مما يقولون. وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضرباً بعصاه، فوالله إن بالحجر لندباً من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً قال: فذلك قوله عز وجل وقد رواه الإمام أحمد: من حديث عبد الله بن شقيق، وهمام بن منبه، عن أبي هريرة به. وهو في (الصحيحين): من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عنه به. ورواه مسلم من حديث عبد الله بن شقيق العقيلي عنه. قال بعض السلف: كان من وجاهته أنه شفع في أخيه عند الله، وطلب منه أن يكون معه وزيراً، فأجابه الله إلى سؤاله وأعطاه طلبته، وجعله نبيا كما قال: ثم قال البخاري: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، حدثنا الأعمش، سألت أبا وائل قال: سمعت عبد الله قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً. فقال رجل: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فغضب، حتى رأيت الغضب في وجهه ثم قال: ((يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)). وكذا رواه مسلم من غير وجه، عن سليمان بن مهران الأعمش به. وقال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن حجاج، سمعت إسرائيل بن يونس، عن الوليد بن أبي هاشم مولى لهمدان، عن زيد بن أبي زائد، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((لا يبلغني أحد عن أحد شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر)). قال: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مال فقسمه. قال: فمررت برجلين وأحدهما يقول لصاحبه: والله ما أراد محمد بقسمته وجه الله ولا الدار الآخرة. فثبت حتى سمعت ما قالا. ثم أتيت رسول الله فقلت: يا رسول الله إنك قلت لنا: لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئاً وإني مررت بفلان وفلان، وهما يقولان كذا وكذا. فاحمرّ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشق عليه ثم قال: ((دعنا منك فقد أوذي موسى أكثر من ذلك فصبر)). وهكذا رواه أبو داود، والترمذي من حديث إسرائيل، عن الوليد بن أبي هاشم به. وفي رواية للترمذي، ولأبي داود من طريق ابن عبد، عن إسرائيل، عن السدي عن الوليد به. وقال الترمذي: غريب من هذا الوجه. وقد ثبت في (الصحيحين) في أحاديث الإسراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بموسى، وهو قائم يصلي في قبره. ورواه مسلم عن أنس. وفي (الصحيحين) من رواية قتادة، عن أنس، عن مالك بن صعصعة. ((عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر ليلة أسري به بموسى في السماء السادسة. فقال له جبريل: هذا موسى، فسلم عليه. قال: فسلمت عليه. فقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح. فلما تجاوزت بكى. قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي)). وذكر إبراهيم في السماء السابعة، وهذا هو المحفوظ، وما وقع في حديث شريك بن أبي نمر، عن أنس، من أن إبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله. (ج/ص: 1/ 366) فقد ذكر غير واحد من الحفاظ، أن الذي عليه الجادة، أن موسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة، وأنه مسند ظهره إلى البيت المعمور الذي يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة، ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم. واتفقت الروايات كلها على أن الله تعالى لما فرض على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته خمسين صلاة في اليوم والليلة، فمر بموسى قال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فإني قد عالجت بني إسرائيل قبلك أشد المعالجة، وأن أمتك أضعف أسماعاً وأبصاراً وأفئدة، فلم يزل يتردد بين موسى، وبين الله عز وجل، ويخفف عنه في كل مرة، حتى صارت إلى خمس صلوات في اليوم والليلة. وقال الله تعالى: هي خمس، وهي خمسون، أي: بالمضاعفة، فجزى الله عنا محمداً صلى الله عليه وسلم خيراً، وجزى الله عنا موسى عليه السلام خيراً. وقال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا حصين ابن نمير، عن حصين بن عبد الرحمن، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: ((عرضت علي الأمم، ورأيت سواداً كثيراً سد الأفق، فقيل: هذا موسى في قومه)). هكذا روى البخاري هذا الحديث ههنا مختصراً. وقد رواه الإمام أحمد مطولاً فقال: حدثنا شريح، حدثنا هشام، حدثنا حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عن سعيد بن جبير، فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ قلت: أنا. ثم قلت: إني لم أكن في صلاة، ولكن لدغت. قال: وكيف فعلت؟ قلت: استرقيت. قال: وما حملك على ذلك؟ قال: قلت: حديث حدثناه الشعبي عن بريدة الأسلمي، أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حمة. فقال سعيد يعني - ابن جبير -: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ثم قال: حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عرضت على الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي معه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد إذ رفع لي سواد عظيم. فقلت: هذه أمتي. فقيل: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق فإذا سواد عظيم. ثم قيل: انظر إلى هذا الجانب فإذا سواد عظيم. فقيل: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب. ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل فخاض القوم في ذلك. فقالوا: من هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب؟ فقال بعضهم: لعلهم الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: لعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله شيئاً قط، وذكروا أشياء. فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا الذي كنتم تخوضون فيه؟ فأخبروه بمقالتهم. فقال: هم الذين لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون. فقام عكاشة بن محيصن الأسدي فقال: أنا منهم يا رسول الله؟ قال: أنت منهم. ثم قام آخر فقال: أنا منهم يا رسول الله؟ فقال: سبقك بها عكاشة)). وهذا الحديث له طرق كثيرة جداً، وهو في الصحاح، والحسان، وغيرها، وسنوردها إن شاء الله تعالى في باب صفة الجنة، عند ذكر أحوال القيامة وأهوالها. (ج/ص: 1/ 367) وقد ذكر الله تعالى موسى عليه السلام في القرآن كثيراً، وأثنى عليه، وأورد قصته في كتابه العزيز مراراً، وكررها كثيراً، مطولة ومبسوطة ومختصرة، وأثنى عليه بليغاً وكثيراً، ما يقرنه الله ويذكره، ويذكر كتابه مع محمد صلى الله عليه وسلم، وكتابه كما قال في سورة البقرة: وقال تعالى: فأثنى تعالى على التوراة، ثم مدح القرآن العظيم مدحاً عظيماً، وقال تعالى في آخرها: وقال تعالى في سورة المائدة: فجعل القرآن حاكماً على سائر الكتب غيره، وجعله مصدقاً لها، ومبيناً ما وقع فيها من التحريف والتبديل، فإن أهل الكتاب استحفظوا على ما بأيديهم من الكتب، فلم يقدروا على حفظها، ولا على ضبطها وصونها، فلهذا دخلها ما دخلها من تغييرهم وتبديلهم، لسوء فهومهم، وقصورهم في علومهم، وردائة قصودهم، وخيانتهم لمعبودهم، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة. ولهذا يوجد في كتبهم من الخطأ البين على الله وعلى رسوله ما لا يحد ولا يوصف، وما لا يوجد مثله، ولا يعرف. وقال تعالى في سورة الأنبياء: وقال الله تعالى في سورة القصص: فأثنى الله على الكتابين، وعلى الرسولين عليهما السلام، وقالت الجن لقومهم: إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى. (ج/ص: 1/ 368) وقال ورقة بن نوفل لما قص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى من الأول الوحي، وتلا عليه: قال: سبوح سبوح، هذا الناموس الذي أنزل على موسى بن عمران. وبالجملة فشريعة موسى عليه السلام كانت عظيمة، وأمته كانت أمة كثيرة، ووجد فيها أنبياء، وعلماء، وعباد، وزهاد، وألباء، وملوك، وأمراء، وسادات، وكبراء، لكنهم كانوا فبادوا، وتبدلوا كما بدلت شريعتهم، ومسخوا قردة وخنازير، ثم نسخت بعد كل حساب ملتهم، وجرت عليهم خطوب وأمور، يطول ذكرها، ولكن سنورد ما فيه مقنع، لمن أراد أن يبلغه خبرها، إن شاء الله، وبه الثقة، وعليه التكلان. قال الإمام أحمد: حدثنا هشام، حدثنا داود بن أبي هند، عن أبي العالية، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بوادي الأزرق: ((فقال أي واد هذا؟)). قالوا: وادي الأزرق. قال: ((كأني أنظر إلى موسى وهو هابط من الثنية، وله جؤار إلى الله عز وجل بالتلبية)). حتى أتى على ثنية هرشاء. فقال: ((أي ثنية هذه؟)). قالوا: هذه ثنية هرشاء. قال: ((كأني انظر إلى يونس بن متى على ناقة حمراء عليه جبة من صوف، خطام ناقته خلبة)). قال هشيم: يعني ليفاً وهو يلبي، أخرجه مسلم من حديث داود بن أبي هند به. وروى الطبراني عن ابن عباس مرفوعاً: إن موسى حج على ثور أحمر وهذا غريب جداً. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي، عن ابن عون، عن مجاهد قال: كنا عند ابن عباس فذكروا الدجال، فقال: إنه مكتوب بين عينيه: (ك ف ر). قال: ما يقولون؟ قال: يقولون مكتوب بين عينيه: (ك ف ر). فقال ابن عباس: لم أسمعه قال ذلك، ولكن قال: ((أما إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم، وأما موسى: فرجل آدم جعد الشعر على جمل أحمر مخطوم بخلبة، كأني أنظر إليه وقد انحدر من الوادي يلبي)). قال هشيم: الخلبة الليف. ثم رواه الإمام أحمد، عن أسود، عن إسرائيل، عن عثمان بن المغيرة، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: (ج/ص: 1/ 369) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأيت عيسى بن مريم، وموسى، وإبراهيم. فأما عيسى: فأبيض جعد عريض الصدر، وأما موسى: فآدم جسيم)). قالوا: فإبراهيم؟ قال: ((انظروا إلى صاحبكم)). وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس، حدثنا شيبان قال: حدث قتادة، عن أبي العالية، حدثنا ابن عم نبيكم ابن عباس قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: ((رأيت ليلة أسري بي موسى بن عمران، رجلا طوالاً جعداً كأنه من رجال شنؤة، ورأيت عيسى بن مريم مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض، سبط الرأي)). وأخرجاه من حديث قتادة به. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر قال: الزهري وأخبرني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حين أسري بي لقيت موسى فنعته. فقال رجل: قال -حسبته قال - مضطرب رجل الرأس، كأنه من رجال شنؤة. قال: ولقيت عيسى فنعته رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ربعة أحمر، كأنما خرج من ديماس، يعني: حماما. قال: ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به)). الحديث، وقد تقدم غالب هذه الأحاديث في ترجمة الخليل. قال البخاري في (صحيحه) وفاة موسى عليه السلام: حدثنا يحيى بن موسى، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن ابن طاووس، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام، فلما جاءه صكه، فرجع إلى ربه عز وجل، فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، قال: ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور، فله بما غطت يده بكل شعرة سنة، قال: أي رب ثم ماذا؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن. قال فسأل الله عز وجل أن يدنيه من الأرض المقدسة رميه بحجر، قال أبو هريرة: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر)). قال: وأنبأنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وقد روى مسلم الطريق الأول من حديث عبد الرزاق به. ورواه الإمام أحمد من حديث حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن أبي هريرة مرفوعاً وسيأتي. (ج/ص: 1/ 370) وقال الإمام أحمد: حدثنا الحسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو يونس يعني - سليم بن جبير- عن أبي هريرة، قال الإمام أحمد: لم يرفعه. قال: جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام فقال: أجب ربك فلطم موسى عين ملك الموت، ففقأها. فرجع الملك إلى الله فقال: إنك بعثتني إلى عبد لك لا يريد الموت. قال: وقد فقأ عيني. قال: فرد الله عينه. وقال: ارجع إلى عبدي، فقل له: الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور، فما وارت يدك من شعره، فإنك تعيش بها سنة. قال: ثم مه؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن يا رب من قريب. تفرد به أحمد وهو موقوف بهذا اللفظ. وقد رواه ابن حبان في (صحيحه)، من طريق معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن أبي هريرة قال معمر: وأخبرني من سمع الحسن، عن رسول الله فذكره، ثم استشكله ابن حبان، وأجاب عنه بما حاصله، أن ملك الموت لما قال له هذا لم يعرفه، لمجيئه له على غير صورة يعرفها موسى عليه السلام، كما جاء جبريل في صورة أعرابي، وكما وردت الملائكة على إبراهيم ولوط في صورة شباب، فلم يعرفهم إبراهيم ولا لوط أولاً، وكذلك موسى لعله لم يعرفه. لذلك ولطمه ففقأ عينه، لأنه دخل داره بغير إذنه، وهذا موافق لشريعتنا في جواز فقء عين من نظر إليك في دارك بغير إذن. ثم أورد الحديث من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جاء ملك الموت إلى موسى ليقبض روحه. قال له: أجب ربك، فلطم موسى عين ملك الموت، ففقأ عينه)). وذكر تمام الحديث. كما أشار إليه البخاري، ثم تأوله على أنه لما رفع يده ليلطمه، قال له: أجب ربك، وهذا التأويل لا يتمشى على ما ورد به اللفظ من تعقيب قوله: أجب ربك بلطمه، ولو استمر على الجواب الأول لتمشى له، وكأنه لم يعرفه في تلك الصورة. ولم يحمل قوله هذا على أنه مطابق، إذلم يتحقق في الساعة الراهنة أنه ملك كريم، لأنه كان يرجو أموراً كثيرة، كان يحب وقوعها في حياته من خروجه من التيه، ودخولهم الأرض المقدسة، وكان قد سبق في قدرة الله أنه عليه السلام يموت في التيه بعد هارون أخيه، كما سنبينه إن شاء الله تعالى. وقد زعم بعضهم أن موسى عليه السلام، هو الذي خرج بهم من التيه، ودخل بهم الأرض المقدسة، وهذا خلاف ما عليه أهل الكتاب وجمهور المسلمين. ومما يدل على ذلك قوله لما اختار الموت: رب أدنني إلى الأرض المقدسة رمية حجر، ولو كان قد دخلها لم يسأل ذلك، ولكن لما كان مع قومه بالتيه. وحانت وفاته عليه السلام أحب أن يتقرب إلى الأرض التي هاجر إليها، وحث قومه عليها، ولكن حال بينهم وبينها القدر رمية بحجر، ولهذا قال سيد البشر ورسول الله إلى أهل الوبر والمدر: ((فلو كنت ثم لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر)). وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، حدثنا ثابت، وسليمان التيمي، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لما أسري بي مررت بموسى وهو قائم يصلي في قبره، عند الكثيب الأحمر)). ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة به. (ج/ص: 1/ 371) وقال السدي: عن أبي مالك، وأبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة قالوا: ثم إن الله تعالى أوحى إلى موسى إني متوف هارون فائت به جبل كذا وكذا، فانطلق موسى وهارون نحو ذلك الجبل، فإذا هم بشجرة، لم تر شجرة مثلها، وإذا هم ببيت مبني، وإذا هم بسرير عليه فرش، وإذا فيه ريح طيبة، فلما نظر هارون إلى ذلك الجبل والبيت وما فيه أعجبه، قال: يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير. قال له موسى: فنم عليه. قال: إني أخاف أن يأتي رب هذا البيت فيغضب علي. قال له: لا ترهب أنا أكفيك رب هذا البيت فنم. قال يا موسى: نم معي، فإن جاء رب هذا البيت غضب علي وعليك جميعاً، فلما ناما أخذ هارون الموت، فلما وجد حسه قال يا موسى: خدعتني، فلما قبض، رفع ذلك البيت، وذهبت تلك الشجرة، ورفع السرير به إلى السماء، فلما رجع موسى إلى قومه وليس معه هارون قالوا: فإن موسى قتل هارون، وحسده حب بني إسرائيل له. وكان هارون أكف عنهم، وألين لهم من موسى، وكان في موسى بعض الغلظة عليهم، فلما بلغه ذلك قال لهم: ويحكم كان أخي أفتروني أقتله، فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين، ثم دعا الله فنزل السرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض. ثم إن موسى عليه السلام بينما هو يمشي ويوشع فتاه، إذ أقبلت ريح سوداء، فلما نظر إليها يوشع ظن أنها الساعة، فالتزم موسى وقال: تقوم الساعة وأنا ملتزم موسى نبي الله، فاستل موسى عليه السلام من تحت القميص، وترك القميص في يدي يوشع، فلما جاء يوشع بالقميص آخذته بنو إسرائيل وقالوا: قتلت نبي الله، فقال: لا والله ما قتلته ولكنه استل مني، فلم يصدقوه وأرادوا قتله. قال: فإذا لم تصدقوني فاخروني ثلاثة أيام، فدعا الله فأتى كل رجل ممن كان يحرسه في المنام، فأخبر أن يوشع لم يقتل موسى، وإنا قد رفعناه إلينا فتركوه، ولم يبق أحد ممن أبى أن يدخل قرية الجبارين مع موسى إلا مات، ولم يشهد الفتح. وفي بعض هذا السياق نكارة وغرابة، والله أعلم. وقد قدمنا أنه لم يخرج أحد من التيه ممن كان مع موسى، سوى يوشع بن نون، وكالب بن يوقنا، وهو زوج مريم أخت موسى وهارون، وهما الرجلان المذكوران فيما تقدم، اللذان أشارا على ملأ بني إسرائيل بالدخول عليهم. وذكر وهب بن منبه: أن موسى عليه السلام مر بملأ من الملائكة يحفرون قبراً، فلم ير أحسن منه ولا أنضر ولا أبهج، فقال: يا ملائكة الله لمن تحفرون هذا القبر، فقالوا: لعبد من عباد الله كريم، فإن كنت تحب أن تكون هذا العبد فادخل هذا القبر وتمدد فيه، وتوجه إلى ربك، وتنفس أسهل تنفس، ففعل ذلك فمات صلوات الله وسلامه عليه، فصلت عليه الملائكة ودفنوه، وذكر أهل الكتاب وغيرهم أنه مات وعمره مائة وعشرون سنة. (ج/ص: 1/ 372) وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أمية بن خالد ويونس قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال يونس رفع هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم - قال: ((كان ملك الموت يأتي الناس عياناً. قال فأتى موسى عليه السلام فلطمه ففقأ عينه، فأتى ربه. فقال: يا رب عبدك موسى فقأ عيني، ولولا كرامته عليك لعتبت عليه. وقال يونس: لشققت عليه. قال له: اذهب إلى عبدي فقل له: فليضع يده على جلد، أو مَسْك ثور، فله بكل شعرة وارت يده سنة. فأتاه فقال له، فقال: ما بعد هذا؟ قال: الموت. قال: فالآن. قال: فشمه شمة فقبض روحه)). قال يونس: فرد الله عليه عينه، وكان يأتي الناس خفية. وكذا رواه ابن جرير، عن أبي كريب، عن مصعب بن المقدام، عن حماد بن سلمة به. فرفعه أيضاً. هو يوشع بن نون بن أفراثيم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام. وأهل الكتاب يقولون يوشع بن عم هود. وقد ذكره الله تعالى في القرآن غير مصرح باسمه في قصة الخضر، كما تقدم من قوله: وقدمنا ما ثبت في الصحيح من رواية أبي بن كعب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه يوشع بن نون، وهو متفق على نبوته عند أهل الكتاب، فإن طائفة منهم وهم السامرة لا يقرون بنبوة أحد بعد موسى إلا يوشع بن نون، لأنه مصرح به في التوراة، ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقاً لما معهم من ربهم، فعليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة. وأما ما حكاه ابن جرير وغيره من المفسرين، عن محمد بن إسحاق: من أن النبوة حولت من موسى، إلى يوشع في آخر عمر موسى، فكان موسى يلقي يوشع فيسأله ما أحدث الله إليه من الأوامر والنواهي، حتى قال له: يا كليم الله، إني كنت لا أسألك عما يوحي الله إليك حتى تخبرني أنت، ابتداء من تلقاء نفسك، فعند ذلك كره موسى الحياة وأحب الموت. ففي هذا نظر، لأن موسى عليه السلام لم يزل الأمر والوحي والتشريع والكلام من الله إليه من جميع أحواله حتى توفاه الله عز وجل، ولم يزل معززاً مكرماً مدللاً وجيها عند الله، كما قدمنا في الصحيح من قصة فقئه عين ملك الموت، ثم بعثه الله إليه إن كان يريد الحياة، فليضع يده على جلد ثور، فله بكل شعرة وارت يده سنة يعيشها، قال: ثم ماذا؟ قال: الموت. قال: فالآن يا رب، وسأل الله أن يدنيه إلى بيت المقدس رمية بحجر، وقد أجيب إلى ذلك صلوات الله وسلامه عليه. فهذا الذي ذكره محمد بن إسحاق إن كان، إنما يقوله من كتب أهل الكتاب، ففي كتابهم الذي يسمونه التوراة: أن الوحي لم يزل ينزل على موسى في كل حين يحتاجون إليه، إلى آخر مدة موسى، كما هو المعلوم من سياق كتابهم عند تابوت الشهادة في قبة الزمان. (ج/ص: 1/ 373) وقد ذكروا في السفر الثالث أن الله أمر موسى وهارون أن يعدا بني إسرائيل على أسباطهم، وأن يجعلا على كل سبط من الاثني عشر أميراً، وهو النقيب. وماذاك إلا ليتأهبوا للقتال - قتال الجبارين عند الخروج من التيه - وكان هذا عند اقتراب انقضاء الأربعين سنة، ولهذا قال بعضهم: إنما فقأ موسى عليه السلام عين ملك الموت لأنه لم يعرفه في صورته تلك، ولأنه كان قد أمر بأمر كان يرتجي وقوعه في زمانه، ولم يكن في قدر الله أن يقع ذلك في زمانه، بل في زمان فتاه يوشع بن نون عليه السلام. كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أراد غزو الروم بالشام، فوصل إلى تبوك، ثم رجع عامه ذلك في سنة تسع. ثم حج في سنة عشر، ثم رجع فجهز جيش أسامة إلى الشام، طليعة بين يديه، ثم كان على عزم الخروج إليهم امتثالاً لقوله تعالى: ولما جهز رسول الله جيش أسامة، توفي عليه الصلاة والسلام وأسامة مخيم بالجرف، فنفذه صديقه وخليفته أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ثم لما لـمَّ شعث جزيرة العرب وما كان دهى من أمر أهلها، وعاد الحق إلى نصابه، جهز الجيوش يمنة ويسرة إلى العراق: أصحاب كسرى ملك الفرس، وإلى الشام: أصحاب قيصر ملك الروم، ففتح الله لهم، ومكن لهم وبهم، وملكهم نواصي أعدائهم، كما سنورده عليك في موضعه، إذا انتهينا إليه مفصلاً إن شاء الله بعونه وتوفيقه وحسن إرشاده. وهكذا موسى عليه السلام كان الله قد أمره أن يجند بني إسرائيل، وأن يجعل عليهم نقباء، كما قال تعالى: يقول لهم: لئن قمتم بما أوجبت عليكم، ولم تنكلوا عن القتال كما نكلتم أول مرة، لأجعلن ثواب هذه مكفراً لما وقع عليكم من عقاب تلك، كما قال تعالى لمن تخلف من الأعراب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية: وهكذا قال تعالى لبني إسرائيل: والمقصود أن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يكتب أسماء المقاتلة من بني إسرائيل، ممن يحمل السلاح، ويقاتل ممن بلغ عشرين سنة فصاعداً وأن يجعل على كل سبط نقيباً منهم. السبط الأول: سبط روبيل، لأنه بكر يعقوب، كان عدة المقاتلة منهم ستة وأربعين ألفاً وخمسمائة، ونقيبهم منهم وهو: اليصور بن شديئورا. السبط الثاني: سبط شمعون، وكانوا تسعة وخمسين ألفاً وثلاثمائة. ونقيبهم: شلوميئيل بن هوريشداي. السبط الثالث: سبط يهوذا، وكانوا أربعة وسبعين ألفاً وستمائة. ونقيبهم: نحشون بن عميناداب. السبط الرابع: سبط ايساخر، وكانوا أربعة وخمسين ألفاً وأربعمائة، ونقيبهم نشائيل بن صوغر. السبط الخامس: سبط يوسف عليه السلام، وكانوا أربعين ألفاً وخمسمائة، ونقيبهم يوشع بن نون. السبط السادس: سبط ميشا، وكانوا أحداً وثلاثين ألفاً ومائتين، ونقيبهم جمليئيل بن فدهصور. السبط السابع: سبط بنيامين، وكانوا خمسة وثلاثين ألفاً وأربعمائة، ونقيبهم: أبيدن بن جدعون. السبط الثامن: سبط حاد، وكانوا خمسة وأربعة ألفاً وستمائة وخمسين رجلاً، ونقيبهم: الياساف بن رعوئيل. السبط التاسع: سبط أشير، وكانوا أحداً وأربعين ألفاً وخمسمائة. ونقيبهم: فجعيئيل بن عكرن. السبط العاشر: سبط دان، وكانوا اثنين وستين ألفاً وسبعمائة، ونقيبهم: أخيعزر بن عمشداي. السبط الحادي عشر: سبط نفتالي، وكانوا ثلاثة وخمسين ألفاً وأربعمائة. ونقيبهم: أخيرع بن عين. السبط الثاني عشر: سبط زبولون، وكانوا سبعة وخمسين ألفاً وأربعمائة، ونقيبهم: الباب بن حيلون. هذا نص كتابهم الذي بأيديهم، والله أعلم. وليس منهم: بنو لاوي، فأمر الله موسى أن لا يعدهم معهم، لأنهم موكلون بحمل قبة الشهادة، وضربها وخزنها، ونصبها، وحملها إذا ارتحلوا، وهم سبط موسى وهارون عليهما السلام، وكانوا اثنين وعشرين ألفاً من ابن شهر فما فوق ذلك، وهم في أنفسهم قبائل من كل قبيلة طائفة من قبة الزمان، يحرسونها ويحفظونها ويقومون بمصالحها ونصبها وحملها، وهم كلهم حولها، ينزلون، ويرتحلون أمامها ويمنتها وشمالها ووراءها. وجملة ما ذكر من المقاتلة غير بني لاوي خمسمائة ألف وأحد وسبعون ألفاً وستمائة وستة وخمسون. لكن قالوا: فكان عدد بني إسرائيل ممن عمره عشرون سنة فما فوق ذلك، ممن حمل السلاح ستمائة ألف وثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسة وخمسين رجلاً، سوى بني لاوي، وفي هذا نظر. فإن جميع الجمل المتقدمة إن كانت كما وجدنا في كتابهم، لا تطابق الجملة التي ذكروها، والله أعلم. فكان بنو لاوي الموكلون بحفظ قبة الزمان، يسيرون في وسط بني إسرائيل، وهم القلب، ورأس الميمنة: بنو روبيل، ورأس الميسرة: بنودان، وبنو نفتالي يكونون ساقة. وقرر موسى عليه السلام - بأمر الله تعالى له - الكهانة في بني هارون، كما كانت لأبيهم من قبلهم، وهم ناداب، وهو بكره، وأبيهو، والعازر، ويثمر. (ج/ص: 1/ 375) والمقصود أن بني إسرائيل لم يبق منهم أحد ممن كان نكل عن دخول مدينة الجبارين، الذين قالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] قاله الثوري، عن أبي سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس. وقاله: قتادة، وعكرمة. ورواه السدي، عن ابن عباس، وابن مسعود، وناس من الصحابة، حتى قال ابن عباس، وغيره من علماء السلف والخلف: ومات موسى وهارون قبله كلاهما في التيه جميعاً. وقد زعم ابن إسحاق أن الذي فتح بيت المقدس هو موسى، وإنما كان يوشع على مقدمته، وذكر في مروره إليها قصة بلعام بن باعور الذي قال تعالى فيه: وقد ذكرنا قصته في التفسير، وأنه كان فيما قاله ابن عباس وغيره يعلم الاسم الأعظم، وأن قومه سألوه أن يدعو على موسى وقومه فامتنع عليهم، ولما ألحوا عليه، ركب حمارة له؛ ثم سار نحو معسكر بني إسرائيل، فلما أشرف عليهم ربضت به حمارته فضربها، حتى قامت فسارت غير بعيد وربضت، فضربها ضرباً أشد من الأول، فقامت ثم ربضت، فضربها فقالت له: يا بلعام أين تذهب، أما ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا، أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين تدعو عليهم؟ فلم ينزع عنها فضربها حتى سارت به، حتى أشرف عليهم من رأس جبل حسبان. ونظر إلى معسكر موسى وبني إسرائيل فأخذ يدعو عليهم فجعل لسانه لا يطيعه إلا أن يدعو لموسى وقومه، ويدعو على قوم نفسه فلاموه على ذلك، فاعتذر إليهم بأنه لا يجري على لسانه إلا هذا، واندلع لسانه حتى وقع على صدره، وقال لقومه: ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة، ولم يبق إلا المكر والحيلة. ثم أمر قومه أن يزينوا النساء ويبعثوهن بالأمتعة يبعن عليهم، ويتعرضن لهم، حتى لعلهم يقعون في الزنا، فإنه متى زنى رجل منهم كفيتموه، ففعلوا وزينوا نساءهم، وبعثوهن إلى المعسكر، فمرت امرأة منهم اسمها كستى برجل من عظماء بني إسرائيل - وهو زمري بن شلوم - يقال إنه كان رأس سبط بني شمعون بن يعقوب، فدخل بها قبته، فلما خلا بها أرسل الله الطاعون على بني إسرائيل، فجعل يحوس فيهم. (ج/ص: 1/ 376) فلما بلغ الخبر إلى فنحاص بن العزار بن هارون، أخذ حربته وكانت من حديد، فدخل عليهما القبة فانتظمهما جميعاً فيها، ثم خرج بهما على الناس والحربة في يده، وقد اعتمد على خاصرته وأسندها إلى لحيته، ورفعهما نحو السماء وجعل يقول: اللهم هكذا تفعل بمن يعصيك، ورفع الطاعون. فكان جملة من مات في تلك الساعة سبعين ألفاً، والمقلل يقول عشرين ألفاً، وكان فنحاص بكر أبيه العزار بن هارون، فلهذا يجعل بنو إسرائيل لولد فنحاص من الذبيحة اللية والذراع واللحى، ولهم البكر من كل أموالهم وأنفسهم. وهذا الذي ذكره ابن إسحاق من قصة بلعام صحيح، قد ذكره غير واحد من علماء السلف، لكن لعله لما أراد موسى دخول بيت المقدس أول مقدمه من الديار المصرية، ولعله مراد ابن إسحاق، ولكنه ما فهمه بعض الناقلين عنه، وقد قدمنا عن نص التوراة ما يشهد لبعض هذا، والله أعلم. ولعل هذه قصة أخرى كانت في خلال سيرهم في التيه، فإن في هذا السياق ذكر حسبان، وهي بعيدة عن أرض بيت المقدس، أو لعله كان هذا لجيش موسى، الذين عليهم يوشع بن نون، حين خرج بهم من التيه قاصداً بيت المقدس، كما صرح به السدي، والله أعلم. وعلى كل تقدير فالذي عليه الجمهور: أن هارون توفي بالتيه قبل موسى أخيه بنحو من سنتين، وبعده موسى في التيه أيضاً كما قدمنا، وأنه سأل ربه أن يقرب إلى بيت المقدس فأجيب إلى ذلك، فكان الذي خرج بهم من التيه، وقصد بهم بيت المقدس هو يوشع بن نون عليه السلام، فذكر أهل الكتاب وغيرهم من أهل التاريخ: أنه قطع بني إسرائيل نهر الأردن، وانتهى إلى أريحا، وكانت من أحصن المدائن سوراً، وأعلاها قصوراً وأكثرها أهلاً فحاصرها ستة أشهر. ثم إنهم أحاطوا بها يوماً وضربوا بالقرون - يعني الأبواق - وكبروا تكبيرة رجل واحد، فتفسخ سورها، وسقط وجبة واحدة، فدخلوها وأخذوا ما وجدوا فيها من الغنائم، وقتلوا اثني عشر ألفاً من الرجال والنساء، وحاربوا ملوكاً كثيرة. ويقال: إن يوشع ظهر على أحد وثلاثين ملكاً من ملوك الشام. وذكروا أنه انتهى محاصرته لها إلى يوم جمعة بعد العصر، فلما غربت الشمس أو كادت تغرب، ويدخل عليهم السبت الذي جعل عليهم، وشرع لهم ذلك الزمان قال لها: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علي، فحبسها الله عليه، حتى تمكن من فتح البلد، وأمر القمر فوقف عند الطلوع، وهذا يقتضي أن هذه الليلة كانت الليلة الرابعة عشرة من الشهر الأول، وهو قصة الشمس المذكورة في الحديث الذي سأذكره. وأما قصة القمر فمن عند أهل الكتاب، ولا ينافي الحديث بل فيه زيادة تستفاد، فلا تصدق ولا تكذب، ولكن ذكرهم أن هذا في فتح أريحا، فيه نظر، والأشبه والله أعلم أن هذا كان في فتح بيت المقدس، الذي هو المقصود الأعظم، وفتح أريحا كان وسيلة إليه، والله أعلم. قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا أبو بكر، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس)). انفرد به أحمد من هذا الوجه، وهو على شرط البخاري. (ج/ص: 1/ 377) وفيه دلالة على أن الذي فتح بيت المقدس هو يوشع بن نون عليه السلام، لا موسى، وأن حبس الشمس كان في فتح بيت المقدس لا أريحا، كما قلنا. وفيه أن هذا كان من خصائص يوشع عليه السلام، فيدل على ضعف الحديث الذي رويناه، أن الشمس رجعت حتى صلى علي بن أبي طالب صلاة العصر، بعد ما فاتته بسبب نوم النبي صلى الله عليه وسلم على ركبته، فسأل رسول الله أن يردها عليه حتى يصلي العصر، فرجعت. وقد صححه علي بن صالح المصري، ولكنه منكر، ليس في شيء من الصحاح ولا الحسان، وهو مما تتوفر الدواعي على نقله، وتفردت بنقله امرأة من أهل البيت مجهولة لا يعرف حالها، والله أعلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن، ولا آخر قد بنى بنياناً، ولم يرفع سقفها، ولا آخر قد اشترى غنماً أو خلفات وهو ينتظر أولادها، فغزا فدنا من القرية حين صُلي العصر، أو قريباً من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علي شيئاً، فحبست عليه حتى فتح الله عليه، فجمعوا ما غنموا فأتت النار لتأكله فأبت أن تطعمه. فقال: فيكم غلول، فليبايعني من كل قبيلة رجل، فبايعوه فلصقت يد رجل بيده. فقال: فيكم الغلول، وليتابعني قبيلتك، فبايعته قبيلته، فلصق بيد رجلين أو ثلاثة. فقال: فيكم الغلول، أنتم غللتم، فأخرجوا له مثل رأس بقرة من ذهب. قال: فوضعوه بالمال، وهو بالصعيد فأقبلت النار فأكلته، فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا، ذلك بأن الله رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا)). انفرد به مسلم من هذا الوجه. وقد روى البزار، من طريق مبارك بن فضالة، عن عبيد الله، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. قال: ورواه محمد بن عجلان، عن سعيد المقبري. قال: ورواه قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. والمقصود: أنه لما دخل بهم باب المدينة، أمروا أن يدخلوها سجداً أي ركعاً متواضعين شاكرين لله عز وجل على ما من به عليهم من الفتح العظيم، الذي كان الله وعدهم إياه، وأن يقولوا حال دخولهم حطة أي: حط عنا خطيانا التي سلفت من نكولنا الذي تقدم منا. ولهذا لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم فتحها، دخلها وهو راكب ناقته، وهو متواضع حامد شاكر، حتى أن عثنونه - وهو طرف لحيته - ليمس مورك رحله، مما يطأطىء رأسه خضعاناً لله عز وجل، ومعه الجنود والجيوش ممن لا يرى منه إلا الحدق، ولا سيما الكتيبة الخضراء التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لما دخلها اغتسل، وصلى ثماني ركعات، وهي صلاة الشكر على النصر. على المشهور من قولي العلماء، وقيل: إنها صلاة الضحى، وما حمل هذا القائل على قوله هذا، إلا لأنها وقعت وقت الضحى. (ج/ص: 1/ 378) وأما بنو إسرائيل، فإنهم خالفوا ما أمروا به قولاً وفعلاً، دخلوا الباب يزحفون على أستاههم، يقولون: حبة في شعرة، وفي رواية: حنطة في شعرة. وحاصله أنهم بدلوا ما أمروا به واستهزؤا به، كما قال تعالى حاكياً عنهم في سورة الأعراف - وهي مكية -: وقال في سورة البقرة - وهي مدنية - مخاطباً لهم: وقال الثوري، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: وكذا روى العوفي، عن ابن عباس، وكذا روى الثوري، عن ابن إسحاق، عن البراء. قال مجاهد، والسدي، والضحاك، والباب: هو باب حطة من بيت ايلياء بيت المقدس. قال ابن مسعود: فدخلوا مقنعي رؤوسهم ضد ما أمروا به، وهذا لا ينافي قول ابن عباس: أنهم دخلوا يزحفون على أستاههم. وهكذا في الحديث الذي سنورده بعد، فإنهم دخلوا يزحفون وهم مقنعو رؤوسهم. وقوله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} الواو هنا حالية لا عاطفة، أي: ادخلوا سجداً في حال قولكم حطة. قال ابن عباس، وعطاء، والحسن، وقتادة، والربيع: أمروا أن يستغفروا. قال البخاري: حدثنا محمد، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن ابن المبارك، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((قال: قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة، فدخلوا يزحفون على أستاههم. فبدلوا وقالوا: حطة حبة في شعرة)). وكذا رواه النسائي من حديث ابن المبارك ببعضه. ورواه عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، عن ابن مهدي به موقوفاً. وقد قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر، عن همام بن منبه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم، فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم، فقالوا: حبة في شعرة)). ورواه البخاري، ومسلم، والترمذي، من حديث عبد الرزاق. (ج/ص: 1/ 379) وقال الترمذي: حسن صحيح. وقال محمد بن إسحاق: كان تبديلهم كما حدثني صالح بن كيسان، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة، وعمن لا أتهم، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((دخلوا الباب الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجداً يزحفون على أستاههم، وهم يقولون حنطة في شعيرة)). وقال أسباط، عن السدي، عن مرة، عن ابن مسعود قال: في قوله: فهي في العربية: حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعرة سوداء. وقد ذكر الله تعالى أنه عاقبهم على هذه المخالفة، بإرسال الرجز الذي أنزله عليهم وهو الطاعون. كما ثبت في (الصحيحين)، من حديث الزهري، عن عامر بن سعد، ومن حديث مالك، عن محمد بن المنكدر، وسالم أبي النضر، عن عامر بن سعد، عن أسامة بن زيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن هذا الوجع أو السقم رجز عذب به بعض الأمم قبلكم)). وروى النسائي، وابن أبي حاتم وهذا لفظه، من حديث الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، وأسامة بن زيد، وخزيمة بن ثابت قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطاعون رجز عذاب، عذب به من كان قبلكم)). وقال الضحاك، عن ابن عباس: الرجز: العذاب. وكذا قال مجاهد، وأبو مالك، والسدي، والحسن، وقتادة. وقال أبو العالية: هو الغضب. وقال الشعبي: الرجز: إما الطاعون، وإما البرد. وقال سعيد بن جبير: هو الطاعون. ولما استقرت يد بني إسرائيل على بيت المقدس، استمروا فيه وبين أظهرهم نبي الله يوشع، يحكم بينهم بكتاب الله التوراة حتى قبضه الله إليه، وهو ابن مائة وسبع وعشرين سنة، فكان مدة حياته بعد موسى سبعاً وعشرين سنة.
|